*التعايش بين اليهود والمسلمين بالمغرب* يكتبها *الدكتور محمد رزوقي*
admin
أغسطس 17, 2023
كتاب الراي
283 زيارة
*التعايش بين اليهود والمسلمين بالمغرب*
يكتبها *الدكتور محمد رزوقي*لجريدة صوت الاطلس
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته إلى يوم الدين.
*تقديم لابد منه*
لقد فرض علينا كتابة هذا المقال توارد مجموعة من الأسئلة المستفزة على الذهن، خاصة بعد اعتراف دولة اسرائيل بمغربية الصحراء، وعزمها فتح قنصلية لها بالأقاليم الجنوبية من المملكة الشريفة. فكان لزاما علينا أن ننبش في تراثنا الإسلامي علنا نظفر بما نبين به أصول التعايش والتسامح والتساكن بين المسلمين واليهود، ونرد به أسباب التشرذم والتنابذ والتنافر والتعاسر بين الفرق الدينية لكلا الديانتين.
هذه الأسئلة المتناسلة على الذهن تستفزنا باستفزاز واقع الحال لنا في كثير من أقطار البلاد الإسلامية.
إن المستقرئ لأسباب الخلاف الفقهي والمذهبي بين الفرق الإسلامية، يتحصل لديه اقتناع بأن سبب الخلاف في ذلك هو اختلافهم في تقدير المقصود بالراسخين في العلم الواردة في قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) سورة آل عمران الآية: 7. ومرد هذا الاختلاف اختلافهم في تقرير الوصل وتقدير الوقف في الآية بعد “إلا الله”.
كما يرجع في جزء كبير منه إلى اختلافهم في تأويل “حديث افتراق الأمة” المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تأولته كل فرقة إسلامية تأويلا يروم تخصيص نفسها بالفرقة الناجية وتخصيص ما سواها من الفرق بالكفر والضلال.
والدارس المتفحص لمضمون الحديث- حديث افتراق الأمة – في مختلف صيغه التي رواه بها رواة الحديث، سيجد أن ليس فيه ما يدل دلالة قطعية على صرف الحكم بالنجاة إلى فرقة بعينها دون سواها من الفرق الأخرى، التي عدتها بقية الفرق فرق كفر وضلال بمجرد تأويل مظنون.
وبسبب عدم قطعية الحديث في صرف النجاة إلى فرقة بعينها، لجأ كثير من أصحاب الفرق للبحث دلائل تؤكد نجاة لفرقهم وضلال غيرهم. فتراهم يستشهدون بأحاديث ضعيفة لذم فرق بعينها من قبيل استتشهاد الأشاعرة بحديث عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله (ص) قال: “صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية”.
وكل ذلك من أجل تأليب جمهور المسلمين من غير ذوي الاختصاص لنصب العداء لهم.
ومن تم جاز لنا أن نكتب هذه المقالة لكشف خطورة هذا الفكر الوافد الذي يجد مستنده وأصوله في الفكر الوهابي، وتجلية أبعاده للعوام وأشباه العوام.
*تأصيل المسألة*
بناء على ما سبق نعتبر أن تأصيل فقه التساكن والتعايش الحوار بين أهل الديانات التوحيدية من الكتاب والسنة خطوة أولى في هذه المقالة.
إذ ينحرف عن الصواب الكثير ممن يقف عند ظواهر بعض النصوص التي يدل عموم لفظها على وجوب محاربة المخالفين في الدين بالسيف سواء أعلنوا الحرب ضد المسلمين أو لم يعلنوها. دون إلتفات منهم إلى أسباب نزول تلك النصوص ومقاصدها.
ومثال ذلك آية القتال بالسيف من سورة التوبة في قوله تعالى: (فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلْأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍۢ ۚ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) سورة التوبة، الآية: 5،
وآية حرية التدين التي في سورة البقرة في قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْد مِنَ الْغَي)، الآية: 256،
فهاتين الآيتين القرآنيتين تأولتهما المذاهب الإسلامية تأويلين مخالفين، بل مضادين.
فبينما رأى المعتزلة والأشعرية والماتريدية وفقهاء المذاهب الأربعة أن المسالمة والمهادنة هي الأصل في تبليغ الدين. رام الخوارج والحشوية ومن سار على طريقهم من المتأسلمين الجدد جعل القتال أصلا ناسخا لأي مهادنة ومسالمة. وعلى رأيهم فإن آية حرية التدين منسوخة بآية القتال بحد السيف.
ورد ذلك حسب اجتهادنا تشهد له دلائل كثيرة سواء من حيث أسباب النزول، أو سياق الورود ومقصده.
ورغبة في التوضيح، سنعرج على أقوال المفسرين لكلا الآيتين حتى يتبين للقارئ ما نروم بيانه.
*آية حرية التدين*
يقول الله تعالى: «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» سورة البقرة: الآية 256.
فهذه الٱية القرآنية تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن مبدأ الإكراه على اعتناق الإسلام مبدأ مرفوض شرعا، وأن حرية العقيدة مكفولة للجميع، فليس لأحد بمقتضى هذه الآية الربانية المحكمة أن يُكره الناس على دخول الإسلام إكراهاً.
يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى: لا إكراه في الدين.. أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحداً على الدخول فيه. (تفسير القرآن العظيم: ابن كثير).
فقد نقل الرازي صاحب مفاتيح الغيب في التفسير الكبير، عن القفال الشاشي تأويلا جيدا ننقله كاملا للأمانة العلمية إذ قال:
“معناه أنه تعالى ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكن والاختيار”.
ثم احتج القفال على أن هذا هو المراد بقوله تعالى بقوله: “إنه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه. وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء. إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء والامتحان”.
وهو نفس ما ذهب إليه ابن تيمية متحدياً أن يثبت مدع أن رسول الله أكره أحداً على الإسلام لا ممتنعاً ولا مقدوراً عليه، مقرراً أنه لا فائدة في إسلام مثل هذا، لكن من أسلم قُبل منه ظاهر الإسلام (انظر مجموع الرسائل).
ويدعم هذا شواهد قرآنية من سور أخرى كما في قوله تعالى: (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (سورة الكهف: الآية: 29) وقوله:(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (سورة الشعراء: الآية: 99) وقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ) سورة الشعراء، الآيات:2،3،4
*آية القتال وشرعة السيف*
أما آية القتال الواردة في سورة براءة فبتتبع ما جاء في فقه الحرب والسلم عند فقهاء المالكية والشافعية والحنفية خاصة في بابي الجهاد والحرابة، وبتتبع ما جاء في كتب التفاسير في الباب، يتحصل لدينا اعتقاد راسخ أن القتال فيها منصرف إلى جهاد الدفع لا إلى جهاد الطلب.
وبيانه أن الجمع بين آيات القتال سواء في سورة البقرة أو في سورة التوبة يفهم منه أن وجوب القتال منصرف إلى رد خطر من يترصدون شرا بالمسلمين أو نقضوا عهودهم معهم. كما كان حال بني النضير في المدينة ومشركي العرب عند الحديبية.
وبديهي أن نقض العهود وإظهار العدوان والتمرد على دولة المسلمين من معاهد محسوب عليهم أو من جار قريب منهم تخشى صائلته أدعى فطرة وشرعا إلى حرب استباقية بقصد الذود عن الدولة الإسلامية وأمنها وأرضها ودينها، وهو ما تسميه دولة أمريكا العظمى اليوم بالدفاع عن الأمن القومي الذي خاضت وتخوض من أجله حروبا ضروسة فيما وراء البحار.
وهذا المعنى والمنطق من الفهم هو ما يؤكد ويؤيد تفسير كافة الغزوات التي خاضعها النبي صلى الله عليه وسلم مع مشركي العرب واليهود، وتجهيزه لجيش أسامة بن زيد بن حارثة لمحاربة الروم، بقصد جهاد دفع الصائلة بعدما تبين له أن الروم حشدوا الحشود وتحالفوا لأول مرة في التاريخ مع أعدائهم بالأمس من الفرس واليهود من أجل استئصال دين الإسلام من الأرض.
فكل ذلك جهاد دفع لا جهاد طلب إذ الأصل في التبليغ أن يكون بالحكمة والموعظة الحسنة مصداقا لقوله تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) سورة النحل، الآية:125.
وجهاد دفع الصائلة، والدفاع عن النفس ورد العدوان هو ما تشير إليه أيات كثيرة من قبيل قوله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) سورة البقرة، الآية: 190، و(اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ۚ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۖ فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193). ولكل آية من هذه الآيات مناسبة هي المفسر لها.
يعضد ذلك ويؤازره قوله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) سورة النساء، الآية: 94.
وتعليل هذا التقدير ما ذهب إليه الزمخشري من أن آية براءة مخصوصة بسبب نزولها الذي هو نقض المشركين ما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.
ومما يبين ان آية حرية التدين ليست منسوخة بآية القتال وشرعة السيف ما ورد في الأثر من أن زيد بن أسلم روى عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية: أسلمي أيتها العجوز تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق، قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إليَّ قريب، فقال عمر: اللهم اشهد، وتلا: لا إكراه في الدين. تفسير القرطبي(3/280).
وما رواه أبي هلال الطائي، عن أُسَّقَ، قال: كنت مملوكاً لعمر بن الخطاب وأنا نصراني، فكان يعرض علي الإسلام ويقول: « إنك لو أسلمت استعنت بك على أمانتي، فإنه لا يحل لي أن أستعين بك على أمانة المسلمين ولست على دينهم، فأبيت عليه، فقال: لا إكراه في الدين، فلما حضرته الوفاة أعتقني وأنا نصراني وقال: اذهب حيث شئت..». الطبقات الكبرى (6/158)
ففي الأثران ما يؤكد أن إحكام آية {لا إكراه في الدين}، وردّ على من زعم أنها نزلت في وقت ضعف المسلمين، وأنها منسوخة، إذ لو نسخت ما استشهد بها الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. لأن النسخ يتضمن رفع حكم شرعي ثبت بدليل شرعي، فلا يصح هذا الرفع والنسخ إلا بدليل معتبر شرعاً.
وكما يقول الشاطبي: «إن الأحكام إذا ثبتت على المكلف، فادعاء النسخ فيها لا يكون إلا بأمر محقق، لأن ثبوتها على المكلف أولاً محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق… فلا ينبغي قبول تلك الدعوى فيه إلا مع قاطع بالنسخ، بحيث لا يمكن الجمع بين الدليلين، ولا دعوى الإحكام فيهما}. الموافقات: 3/339
*مكانة اليهود في دولة الإسلام*
لما استوى بنيان الدولة الإسلامية، وتقوت أركانها وانتظم في سلكها المسلمون والكتابيون جاز السؤال عن موقع الكتابيين المعاهدين في مجتمع دولة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أسس في الجزيرة العربية دولة نموذجية في التساكن والتعايش بين المسلمين والمعاهدين من اليهود والمسيحيين بل وحتى مع المجوس كما هو الحال مع مجوس البحرين، على جزية يدفعونها مقابل حمايتهم وبقائهم على دينهم. لا يضارون في شيء من حقوقهم فقراء كانوا أو أغنياء.
وإن المتفحص للوثائق النبوية المتفرقة في كتب السيرة والسنن سيقف على دقة وعدالة تلكم الحقوق والواجبات التي عاهد الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود وقبائل العرب عليها. بما يعطيك انطباعا راسخا أنها في دولة ديموقراطية تتعايش فيها كل الأديان في أمن وسلام.
ولك أن تتأمل ديباجة الوثيقة التي عاهد عليها رسول صلى الله عليه وسلم اليهود وقبائل العرب إذ جاء فيها:
(هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم ومن لحق بهم وجاهد معهم إنهم أمة واحدة من دون الناس).
ومما تجده في موضع آخر من عقوده مع قبائل اليهود: “وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم… وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة
وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم،
وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه وأن النصر للمظلوم،
وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين…
وأن بينهم النصر على من دهم يثرب”. من كتاب الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة محمد حميد الله، ط دار النفائس 1985 بيروت.
ودعما منه صلى الله عليه وسلم لقانون التساكن والتعايش الذي سنه مع أهل الكتاب فقد ألقى بالوعيد الشديد على من أذاهم أو اعتدى عليهم او حاول سلبهم حقوقهم في جملة أحاديث؛ نذكر منها ما رواه الترمذي في كتاب الديات، قوله:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَا مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ فَقَدْ أَخْفَرَ بِذِمَّةِ اللَّهِ فَلَا يُرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ خَرِيفًا).
وقصة عائشة رضي الله عنها وأرضاها مع جارياتها اليهوديات في القصة المشهورة؛ فعن عن عائشة، قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار، تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث. قالت: وليستا بمغنيتين. فقال أبو بكر: مزامر الشيطان في بيت رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا أبا بكر، إن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا) فتح الباري952،
وعلى هذا النهج سار من جاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزيلا لقانون التعايش والتساكن بين المسلمين وأهل الذمة. وفي الوصية العمرية التي عاهد عليها عمر رضي الله عنه يهود ونصارى فلسطين لما فتحها عام 17 هـ عبرة لمن يعتبر، تجد في كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم شرحا جيدا لها.
هكذا ظل الأمر بعد وفاة الرسول عليه السلام في كافة الدول الإسلامية سواء في العهد الأموي أو العباسي أو البويهي مرورا بالفاطمي والحمداني والسلجوقي وصولا إلى العثماني. وفي كل تلكم العصور كان لأهل الذمة حرمتهم وعهدهم الذي عاهدهم عليه المسلمون. تلك هي القاعدة أما ما خالف ذلك مما شهدته تلك العصور من بعض التنكيل بأهل الذمة أو النصارى أو المجوس في مدينة أو قرية فهو استثناءات من تاريخ التساكن بين هذه الديانات.
*مظاهر التساكن بين المسلمين واليهود في المغرب ومساهمتهم في تنمية البلاد*
يلاحظ في المغرب الحبيب أحسن تنزيل لأسس التساكن والتعايش بين الديانات في الغرب الإسلامي، إذ يعتبر المغرب جزيرة مستقلة عن الشرق بخصوصياته الجغرافية والتاريخية؛ ويؤكده ما كان لليهود والنصارى في المغرب من وجود قديم ترجعه بعض المصادر إلى عام 586 ق.م عقب التدمير الأول للهيكل عقب حملة الإمبراطور نبوخذ نصر عليهم، وإن كان هناك من مؤرخي الإغريق من يرجع تواجد اليهود بالمغرب إلى عهد موسى عليه السلام حين تخلفت عنه طائفة منهم لما شق بعصاه البحر، ومنذ ذلك الحين وهجراتهم تتوالى من أوروبا على المغرب.
وبموجب هذا الانتماء للوطن بعد استقرارهم في المغرب فقد حاربوا مع السكان الاصليين الأمازيغ وهم بنوا ملتهم، الوندال والبيزنطيين والرومان وتصدوا معهم لسرايا الغزاة الاوائل من الفاتحين بزعامة عقبة بن نافع عام 64هـ، كما حاربوا مع الملكة دهيا المعروفة لدى المؤرخين بالكاهنة حسان بن النعمان ما بين سنوات 72 و74هـ. وحاربت قبائل كثيرة منهم بإمارة تادلة مع سكانها الأمازيغ زحف إدريس الأول مع قبائل أورَبة الصنهاجية عام 172ه. كما حاربوا إلى جانب يوسف ابن تاشفين وسهلوا له مأمورية العبور إلى الأندلس لردع النصارى وتدعيم سلطة ملوك الطوائف.
ومساهمة من الطائفة اليهودية في الحرب ضد الاستعمار الغاشم للمغرب فقد روى لي جدي ووالدي وعمي لحسن رحمة الله عليهم أجمعين كيف ساهم يهودي من بني عياط خبير بتذويب الرصاص واستخلاص البارود من تراب المعدن في مد المقاومين العياطيين بالذخيرة والسلاح.
وبالإجمال فمنذ رسوخ الدولة الإدريسية في المغرب الأقصى عام 172 ه، تمتع اليهود في كنف ملوك المغرب باحترام وتقدير وتوقير فائق، تجلى في ما كان يمنحه لهم السلاطين من ظهائر التوقير، وساروا على ذلك الطريق حتى تبوؤا مناصب الوزارة والسيادة والمشورة في البلاد، زد على ذلك ما كانوا يتمتعون به من حرية أثناء ممارسة أنشطتهم التجارية والحرفية والصنائعية ما جعل منهم طبقة نشيطة لها نصيب وافر في تنشيط الحياة الاقتصادية بالبلاد.
وقد كان ملوك المغرب على مر العصور واعين بأهمية ودور الطائفة اليهودية في تنشيط الدورة الاقتصادية للبلاد، لذلك شجعوهم الاستقرار بالمغرب موفرين لهم ظروف الاستقرار والعيش الكريم، عكس ما لقوه من اضطهاد النصارى لهم في المناطق التي استعادوها من المسلمين. وهكذا فقد كانت الدولة المرينية محضنا لليهود الفارين من اضطهاد النصارى في المدن التي استولوا عليها في الأندلس. وهذا ما نراه أيضا بجلاء في تشجيع السعديين لهم للاستقرار بعد سقوط غرناطة واشتعال حوض البحر الأبيض المتوسط بردود أفعال الموريسكيين بإبادة كل من لا يحسب على النصرانية عسكريا كان أو مدنيا.
كما شجعهم السعديون وبوأوهم مناصب عليا ومتعوهم بكل حقوق المواطنة. وبموجب هذه المواطنة ساهم يهود المغرب في معركة وادي المخازن التي انتصر فيها المغاربة على ملك البرتغال سيباستيان، الذي كان قد أصدر من قبل مرسوما يقضي بإبادة اليهود في الأندلس.
وفي العصر العلوي استقدم مؤسس الدولة المولى رشيد العلوي كثيرا من اليهود من بلدة أيت إسحاق بالأطلس المتوسط إلى فاس لتنشيط الدورة الاقتصادية بها.
وقد تكرر مثل هذا التوقير مع الملك محمد الخامس في العصر الحديث الذي رفض عقب خضوع جزء كبير من دولة فرنسا لحكومة فيشي النازية أن يسلم اليهود للألمان بدعوى تورطهم في مساعدة الحلفاء شاهرا في وجوه الألمان عبارة خلد التاريخ ذكراها: “أنا ملك الجميع يهودا ومسلمين”. وهذا ما يستفاد من مفهوم إمارة المؤمنين بالمغرب، حيث أن ملك البلاد أمير لكل التوحيديين،خلافا لإمارة المسلمين بالشرق. وعلى هذا سار خلفه الملك الحسن الثاني الذي اتخذ منهم وزراء ومستشارين وبوأهم مناصب المسؤولية ومكنهم من كل الحقوق التي ينص عليها عقد الذمة ويتمتع بها كل المغاربة. فكان أعيانهم وأحبارهم يجددون البيعة لملك البلاد كل سنة اسوة بعلماء وأعيان القبائل. وعلى هذا النهج مضى أمير المؤمنين محمد السادس إلى اليوم.
وزيادة في التقدير لهم فقد منع الظهير الشريف رقم 1.58.250. من سقوط الجنسية المغربية عن يهود المغرب، كما أقر قرار الدولة المغربية لسنة 1976م بعدم إسقاط الجنسية المغربية عن اليهود المغاربة الذين هاجروا في المراحل السابقة إلى اسرائيل، وبذلك يمكنهم العودة إلى بلدهم متى شاؤوا باعتبارهم مواطنين مغاربة. كما أطلق مجموعة من النشطاء مبادرة جادة لمنح الجنسية المغربية لأبناء وحفدة اليهود من أصول مغربية.
ومما يؤسف له أن هاجر كثير من يهود المغرب إلى إسرائيل بعد هزيمة العرب عام 1967م بذريعة الخوف من انتقام المسلمين المغاربة منهم، إذ بلغ عدد المغاربة اليهود الذين ذهبوا إلى إسرائيل سنة 1973م أربعمائة ألف نسمة. وبلغ حسب احصائيات 2000م تسعمائة ألف نسمة.
بعد هذا الذي قدمناه لك يتميز لك أن التطبيع جائز وليس بممنوع.
خاصة أن رسول الله تعالى طبع مع اليهود بشرط تخليهم عن فكرة معاداة المسلمين، وتعامل معهم وتوفي وذرعه مرهونة عند يهودي. كما طبع معهم من جاؤوا بعده من الخلفاء الراشدين وكافة الدول التي كان اليهود ذمة لها.
فهل يا ترى سيأتي زمان يعقد فيه سلام على مائدة مثل مائدة الرسول صلى الله عليه وسلم يتجرد فيها الموقعون على الوثيقة من عصبية الانتماء للعروبة والكف عن معاداة السامية وتسليم الأمر لحاكمية المشترك العقدي بين الديانتين؟ وتتغلب فيه الحكمة والعقل على التعصب والقومية؟ أسئلة نتركها للقادم من الأيام لتكشف لنا المستور.